حكمة الشيوخ
مدرسة الشباب
تأليف الشيخ حسين عليان
الطبعة الأولى
2000 م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للأمل السجين في زنازين الظلم ينتظر المخلص …
للكلمة المحتبسة في حناجر الموج ...
لليل الذي تنهّد عند بزوغ الفجر فعلت أصوات الذاكرين ...
للفجر الذي ينجب بعد كل ليل نهاراً جديداً ...
للأطفال الباحثين عن صانع مستقبلهم ...
للرجال الذين يكدّون في سبيل عيالهم ويتخطون الصعاب بعزيمة وثبات ...
للأمهات اللواتي يحدين للطفولة متناسياتٍ كل وجع ...
للشباب الذين يقطعون مسافات النحل بحثاً عن زهرة يجنون منها ما فيه شفاء للناس ...
للأسى الذي لا ينتسى صرخة آهٍ في ضمير الزمن ...
جعفر الحطاب رجل كادح يحمل همّ أطفاله في قلبه ، ومعوله على كتفه ويقصد باب الله الكريم علّه يرجع إليهم بلقمة تسدُّ الجوع وبقروش تقضي الحاجة ...
بيت جعفر بيت متواضع جمع بين أضداد الغنى والفقر ، فهو بيت غني بقناعة وإيمان أهله وفقير من ناحية المادة ...
إلتقيت جعفر الحطاب لأول مرة على غير موعد ومن غير قصد ، ولما سمعته يتكلم أعجبني حديثه الذي يريك في آن واحد حلاوة العيش ومرارته .
منذ ذلك الوقت قررت التعرف عليه أكثر والجلوس إليه طويلاً لأستمع منه إلى كلمات تحمل الحكم مليئة بالتجارب ، غنية بالدروس .
قبل نهاية الأسبوع وبالتحديد مساء ليلة الخميس ، ذهبت قاصداً بيت جعفر الحطاب ، ولا أنسى أن ذلك كان في فصل الشتاء وفي ليلة شديدة البرد ، وصلت إلى داره وطرقت الباب ففتحه أحد صبيانه مرحباً بي ترحيباً كبيراً وهو لا يعرفني من قبل .
المدهش ما أن فُتح الباب حتى خرجت سحابة دخان تكاد تعمي العيون ، فظننت أن حريقاً ما داخل البيت .. ولكن الصبي الخلوق قاطع تفكيري وقال : لا عليك يا عم هذا الدخان من المدفئة ، وما أن أتمّ الصبي كلامه حتى وصلني صوت جعفر مخترقاً الدخان إلى مسمعي وهو يقول : أهلاً بك في بيتك المتواضع .. دخلت إلى البيت وجلست مع أفراد العائلة إلى جانب الموقد والدخان يحتل القسم العلوي من البيت وأنت جالس لا تشعر به .
راح جعفر يحدثني بحديث طويل غير ممل ، فأصغيت له سمعي وهو يقول : القناعة والصبر يا بني من أهم كنوز الدنيا ، المؤمن بربه لا يهن ولا ييأس قلبه كالصوان في الشدائد وكطربون الحبق في الرخاء ، يعمل من أجل الحياة التي هي طريق إلى الله ولا يعمل في سبيل من هو أصغر من الله ، ومن كان مع الله لا يبالي .
الإنسان الذي يرضى بقضاء ربه ويتّبع أمره ويصبر على المكروه هو أغنى من عليها ، ومن هو خلاف ذلك فهو أفقر من عليها ولو ملك من الداراهم والذهب والفضة ما ملكه جبابرة الأرض .
أنظر إلى أمثال ضربها ربك لقوم يعقلون : فرعون وعاد وثمود فساد وطغيان وظلم فأين أصبحوا وأين نزلوا وحلوا ؟ .
أنا لا أدافع عن الفقر فهو شيء مكروه ومرفوض ومذموم ولم يمدح ربك ولا رسله الفقر إنما مدحوا الفقراء الذين تحملوا الفقر وصبروا على مكاره الدهر .
يا بني الفقر من غير الصبر والقناعة يذهب بالمرء إلى الكفر كما قيل :" إذا قال الفقر إني ذاهب إلى بلد قال الكفر خذني معك " .لا تظن أنني مسرور بما أنا عليه من الفقر ولكنني عندما أجد نفسي بين خيارين : بين الفقر ومعه الكفر أو الفقر ومعه القناعة والصبر فإني بلا ريب أختار أن أكون من الصنف الثاني ، فأنا أحد الناس الذين حرم قسم من أولاده من المدرسة وأحياناً نحرم من الذهاب إلى الطبيب رغم الحاجة إليه ونحرم من أمور كثيرة نتيجة القصور المادي .
أنا آسف يا عم إن كنت قد أزعجتك بكلامي فأنا أتكلم من موقع وجعك ووجع كل الفقراء الذين يعانون ويصرخون ولا يسمع صوتهم أحد ، ولكن الشيء المحيّر لماذا لا نتضامن ونرفع صوتنا ونطالب بحقوقنا متحدين ؟ فإن المدرسة والطبابة هي من أبسط حقوق المواطن ويجب على الدولة أن تؤمن لشعبها سبل التعلّم والإستشفاء .. لم يعد في زماننا من المسموح في هذا العالم الذي طور صناعته وتقنيته أن يكون فيه أميّاً .
متى ندرك خطورة التخلف عن خدمة إنساننا ؟
فالذي يطالب بمستقبل لأبناء وطنه يجب أن يؤمن الطريق الصحيح لهذا المستقبل ، والطريق الصحيح يبدأ إنطلاقاً من خدمة المواطن الذي يشكل نواة المجتمع الكبير نحن نسعى إلى قتل تاريخنا العلمي عندما نحرم فرداً من المدرسة لأنه عاجز عن دفع متطلبات التعلّم ، يجب علينا أن ننهض ونطالب ونعبر عن وجعنا ولا بدّ لمن بدأ أن يصل .
إسمع يا بني ، إن ما قلته صحيح ولا يختلف عليه اثنان ، إلاّ أن الإصلاح في أي مجتمع من المجتمعات لا يمكن أن يتم بالصراخ فقط ، رفع الصوت شيء مهم إلاّ أن الأهم أن ندرك كيف نرفع صوتنا .
إن بداية التغيير تنطلق من نقطة مهمة جداً وهي التماسك والتعاضد والمحبة ، لا يمكن أن يتم التغيير على أساس الأهواء ولم يكن نجاح المغيرين في التاريخ إلاّ من خلال إيمانهم بقضية الإنسان ، أما الذين يؤمنون باستخدام الإنسان وسيلة للوصول إلى أهداف وأغراض خاصة فهم يسعون إلى قتل الإنسان وتدميره !
إن وجع الفرد ووجع الأمة منشأه واحد وهو الأنانية ، فعندما يفكر الإنسان بنفسه دون الآخر تخرج الجرثومة إلى المجتمع وتنمو وتتكاثر حتى تصبح حالة صعبة ومستعصية . هذا السلوك الخاطئ عندما يستمر يضرب طاقات المجتمع ويقصر عمره ومن ثمّ يعرضه للدمار .
انظر إلى أولئك الذين يتحدثون من موقع المسؤولية منطلقين من حب الذات ويسعون جاهدين لإقناع الناس على الرضا بالأمر الواقع وأن هذا هو الصحيح حتى ولو استدلوا بالباطل ، وهنا يبدأ الإنحراف بخطوته الأولى ثم يكبر ويكبر وتقع الجريمة تلو الأخرى ونأتي بعد ذلك لنبحث عن الحل ونكون قد صنعنا الأسباب التي أدّت إلى ذلك مختارين حتى ولو كنا غافلين عن النتائج .
عندما يصبح الشعب نتيجة تجهيله تارة وتجاهله تارة أخرى مغرماً بالمغني دون فهم الحقيقة يضيع حقه وتنعدم قدراته !.
لا تعتقد يا بني أنني أريد أن يكون السكوت والصمت نهجاً في زماننا ، "فالساكت عن الحق شيطان أخرس " . ولكنني أريد أن أقول لك لا يمكن للناهض أن يصل إلى حقه من غير أن يؤمّن سبل الوصول ، ومن هذه السبل أن تحصل على المخلصين الرساليين المبدئيين الذين يحملون قيم الدين والأخلاق والإنسانية والوعي والرشد ... وهم على بينة من أمرهم قولهم موافق لسلوكهم وقد قال ربك :"كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " . هذه النقطة هي من أهم الركائز التي تساعد على التغيير والإصلاح . لاحظ يا بني عندما مدح الله سيد البشرية قال : "إنك لعلى خلقٍ عظيم " ، فكان النبي (ص) عظيماً بسلوكه من الصدق والأمانة وحسن التعاطي مع الناس .
ويحكى فيما يحكى عن قصة تحمل درساً يعلمنا كيف نتعاطى مع الأمور عندما نصمم على التغيير يقال : أن رجلاً مملوكاً كان سيده يعذبه شتى أنواع العذاب ، وكان في بلدهم عالم يعظ الناس ويرشدهم إلى الطريق الصحيح ، فذهب الرجل المستضعف إليه وطلب منه أن يخصص موعظة للحديث عن ثواب تحرير العبيد سيما وأن سيده يحضر دائماً تحت منبر هذا العالم .
وعد خيراً وراح ذلك الرجل المسكين ينتظر مجيء اليوم الذي يجد فيه الخلاص بفارغ الصبر ، إلاّ أن العالم لم يتعرض في موعظته لما وعد به ! فقال المملوك في نفسه لعله نسي أو أنه أخّر ذلك إلى الأسبوع القادم لحكمة ما .
مضت الأيام والعالم لم يرشد إلى ما وعد به وكأن الأمر بالنسبة له أصبح نسياً منسياً .
بعد ستة أشهر تعرض العالم في موعظته إلى ثواب تحرير العبيد فتعجب الرجل ولم يتوان عن الذهاب إلى ذلك العالم لسؤاله عن سبب ذلك التأخير ، ولما سأله ردّ قائلاً : الذي دعاني إلى تأخير الحديث عن هذه المسألة هو خوفي من الأمر بشيء وأنا لم أفعله ، فانتظرت حتى تمكنت من شراء عبد ثم أعتقته فأصبح بإمكاني التحدث عن شيء سبقت الناس إليه ، فنحن عندما يكون المرشد فينا كهذا العالم الذي بدأ بنفسه قبل الناس فلم يأمر بالبر وينسى نفسه يصبح بإمكاننا أن نحقق أهداف الإنسانية .
العم جعفر يتكلم وأنا أستمع إليه بشوق شديد وقد أخذنا الوقت من غير أن نشعر ، إستأذنته وخرجت من عنده بعد أن وعدته بالتواصل لأستفيد من تجاربه وحكمه .
خرجت من عنده وسؤال يدور في نفسي : العم جعفر رجل فقير فلاح من أين له هذه الثقافة ؟! التجارب تعلّم ولكن إلى هذا الحد ؟ في المسألة سر !.
الفصل الثاني
بقيت أتردد على العم جعفر ونتباحث في قضايا كثيرة إلاّ أنه كان يرفض الإجابة عندما أسأله عن أسباب ثقافته ويكتفي بقوله :" هي الحياة مدرسة لا تغلق أبوابها ".
بعد مدة من الزمن حكمت عليّ الظروف فانقطعت عن التواصل معه ، مع أنني كنت دائماً أحتاج إليه في مسائل كثيرة . الشوق للّقاء معه بقي حراً يلهب صدري ولكن ماذا تصنع إذا لم تكن قادراً على شيء ؟.
وذات ليلة شعرت بضيق في صدري فقلت في نفسي ليس لي إلاّ أن أذهب إلى العم جعفر وأشكو له فلعلي أرتاح قليلاً ، بالفعل توجهت إلى موطنه ولما وصلت وجدت داره مقفرة وليس من حركة فيها ، سألت الجيران عنه فكان الجواب جعفر سافر هو وعياله منذ شهرين !
رجعت إلى البيت حاملاً همّاً فوق همي ووجعاً زاد وجعي ، وأتساءل لماذا سافر هذا الرجل ؟ لماذا ترك وطنه وهو الذي كان يردد على الدوام :" حب الأوطان من الإيمان ، الوطن أمانة في أعناق أبنائه ، الوطن هو الرصيد الذي نأكل من خيره ولا ينكسر إلاّ عند الخيانة ، قد لا ترفض أن تقدم حياتك في سبيل الحفاظ على مالك ولكنك لا ترفض تقديمها في سبيل وطنك ، الغريب هو من ليس له حبيب والحبيب هو الوطن ".
كان يحدثني عن معنى الوطن وحب الأرض وكان يكره أولئك الذين يتحدثون عن حب الأرض وهم لا يعرفون معناها أو أنهم لم يلامسوا ترابها وكان يقول : أنا عندما أحرك التراب في أرضي تنبعث منه رائحة تصنع الحياة فأشعر أن في كل حبة تراب حبة ذهب ! وأذكره جيداً يوم روى لي قصة ذلك المسؤول الذي جاء ليرعى حفلاً بمناسبة عيد الشجرة ، وكيف توجه إلى الحقل وغرس شجرة وراح الحضور يصفق وكأنه وضع في بلدهم حجر الأساس لنصب الحرية ، وأنا أعلم جيداً أنه غرسها خطأ ولا يعرف كيف تغرس الأشجار ، أما أنا فأغرس كل يوم أشجاراً وأحرسها بعيوني وأرويها من عرقي، أما هو فيغرس الشجرة خطأً ومرة واحدة كل عام تحت عدسات المصورين وتصفيق المصفقين ثم يهجرها وينسى ، ولكنني مؤمن بأن الله لا يضيع أجر العاملين ، فأقصد في كل عمل وجه ربي فهو حسبي ونعم الوكيل .
بقيت في ظلمة تلك الليلة أتذكر وأتخايل كلماته وحركاته وسكانته حتى أنني شعرت بخسارة أهم مصدر أرجع إليه ، وقد أخذتني الذكريات إلى بحر جعفر فرحت أسبح بين الأمواج المتلاطمة ، إستوقفني شيء من الشعر الذي كان يقوله وما زلت أخال شفتيه وهي تتحرك مخرجة أفصح الكلام :
وما هذه الأيام إلاّ فـــوارس تطاردنا والنائبات خيــول
وموت الفتى خيـر له من حياته إذا جاور الأيام وهو ذليــل
أيها العم حرت من أين أبدأ فالذكريات هاجمتني كسيول كانون ، وها أنا غريق في بحر الماضي أنشد ما حفظت من الأدب والحكمة ...
أتوجه إليك وأنت في غربتك لأقول لك :
عد إلى الوطن فإنك أنت القائل :"لو سألوني عن زهرة الكون لقلت هنا في أرضنا تنبت ".
عد إلى هذه الزهرة لا تطل علينا الغياب فإنك المدرسة التي نحتاج إليها
عد إنك المعلم الذي نفتقر لأمثاله .
عد فلقد اشتقت إليك .
ولقــد وقفت على منازل مـــن أهـــــوى وفيض مدامعي غمــر
وســــألتـــها لو أنها نطقـــــت أم كيف ينطق منزل قـــــــفــــر
أنت ذهبت وتركتنا نصارع همّ الحياة المليئة بالمحن في وطننا ، فعد إلينا أيها البحّار الذي يصارع الرياح والموج كي لا يهلك ركاب السفينة .
أنت الفرد المميز الذي قرأت فيه الطهارة والنقاء .. ترى ما الذي دعاك أيها الحكيم للهجرة ؟
هل يئست وقطعت الأمل ؟ وعهدي بك أنك لا تعرف اليأس ولا تهن .. شجاع صبور....
هذا هو الردى يأكل من أعمارنا ويشرب من حياتنا فتذهب من غير أن نشعر .. جميلة هي الذكريات حلوة كانت أم مرّة .
تمضي ساعات هذه الليلة وأنا أعبر من ذكرى لأخرى إلى أن نبهني مؤذن الفجر فقمت للصلاة وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين . قمت للذكر بعد الذكرى مستعيناً بربي على قضاء حاجتي .
الفصل الثالث
بقيت بعد غياب العم جعفر متابعاً نشاطي الدراسي والإجتماعي ، وبعد مضي عدة سنوات استطعت مع مجموعة من الشباب إنشاء جمعية تعنى بالثقافة والتوعية ، وقد تمكنا خلال فترة وجيزة من شق طريقنا وظهرت لنا نشاطات كثيرة تهدف إلى توعية الإنسان والإنتقال به إلى الأفضل ، وكانت الدراسات التي نقوم بها تزيدني قوة في السعي نحو تحقيق آمالنا التي كان الكثير يشك في إمكانية الوصول إليها .
كنا نتأمل جيداً في حياة العظماء الذين خدموا مجتمعاتهم وغيروا مسارات كانت سنة من السنن الخاطئة في حياة الناس ، وكنا نقول : هؤلاء هم من البشر وليسوا ملائكة منزلين ، وبإمكان كل عامل جاد أن يصنع شيئاً لمجتمعه ، وفي النهاية من سار على الدرب وصل أو أوصل أبناء القضية التي يحملها إلى حيث كان يرمي بحركة جهاده الإنساني .
الأمر الذي كنا نركز عليه في إنجاز أي مشروع هو أن نزرع ولو حصد زرعنا من سيأتي بعدنا وليس المهم أن نكون نحن من يجني الثمر.
بقينا نغرف من حبر الحقيقة المرة حتى تمكنا من الدخول في المعترك الإجتماعي والسياسي من أوسع أبوابه ، هنا لم تعد الجمعية مجرد مجموعة من الأفراد بل أصبحت نهجاً علقت الناس آمالها عليه .
السنون تمر واستحقاقات كثيرة أمامنا ومن أهمها استحقاق الإنتخابات النيابية إذ أن هذا الأمر كان يعنيني كثيراً ، وبهذا اللحاظ كنت أتابع بدقة أسماء الأشخاص الذين يتقدمون بطلبات الترشيح ، وقد لفت نظري طلب مرشح موقع بإسم ربيع الحطاب فتوقفت عند هذا الإسم وانتقل ذهني إلى الشخص الذي ملأ قلبي حباً وأعطاني حماساً واندفاعاً نحو العمل وكيفية التعاطي معه فقلت في نفسي لعل صاحب هذا الإسم يعرف شيئاً عن ذلك الرجل العظيم ألا وهو العم جعفر الحطاب .
رحت أبحث عن هذا الشخص فالتقيت به بعد خمسة أيام من تاريخ الإطلاع على اسمه ، تعرفت عليه وبعد محادثة وجيزة سألته عن صلته بالعم جعفر فقال : أنا إبنه !
لم أتوقع ذلك نهائياً ، لأن الفكرة التي كانت راسخة في ذهني أن من المستحيل أن يصل أبناء جعفر الحطاب إلى موقع متقدم فكيف بولده اليوم يرشح نفسه لمنصب مهم بصفته كادر إجتماعي ومدرس جامعي ؟
كان ذلك بالنسبة لي مفاجأة كبيرة بل صدمة !
هذا البيت الفقير يخرج منه كوادر إلى المجتمع ؟ فعندما سألته عن أخوته الأربعة فكان الجواب عن كل واحد بصفة إجتماعية أو علمية مهمة ، حقيقة ليس كثيراً على ذلك العظيم أن يخرج من بيته عظماء . وبعد لقاء قصير مع ربيع رافقته لزيارة والده بعد ذلك الإنقطاع الطويل .
وصلنا إلى بيتهم الذي رأيته على نفس ذلك التواضع المرتسم في ذهني عندما كنت آتي لزيارتهم قبل سفرهم ، إستقبلنا العم جعفر بنفس الحرارة التي عودني عليها في السابق إلاّ أنه في البداية لم يعرفني ، ولما ذكرته تذكرني جيداً وضمني وهو يبكي ...
لقد غيّر الدهر صورة جعفر لكنه لم يغيّر أخلاقه وحسن سلوكه ما زال بنفس الصفات إلاّ أنه كالبدر المقترب من الخسوف .
رحت أقص عليه ما جرى في غيابه فرأيته ما زال يحنّ إلى الصبا ولكنه مسلّم بالقضاء فأسمعني من شعره الجميل هذه الأبيات:
ذهب الصبا وتصرم العمر ودنى الرحيل وقوض السفــــر
ووهت قـــــــــــواعد قوتـــي وذوى غصن الشبيبة وانحنى الظهر
· شاء القدر يا بني بعد طول الهجرة أن أعود لأموت في وطني وأدفن في هذه الأرض إلى جانب الأجداد والآباء وشاء تعالى أن نلتقي من جديد .
لقد تركتنا يا عم وذهبت على حين غفلة وتركت وراءك فراغاً كبيراً ، كنت بالنسبة لي مدرسة أرجع إليها لأنهل من علمها الوفير ، والآن أريد أن أسألك كيف خطر لك وتركت الوطن وأنت من كان يدعو إلى التمسك بحبات ترابه؟ .
أنا يا بني لم أخالف قناعتي ، ولكنني عندما وجدت نفسي عاجزاً عن خدمة وطني بما أنا عليه من الحال الذي تعرف بل الأكثر من ذلك كنت أجد أن تحصيل لقمة العيش لم تعد سهلة وأحياناً غير ممكنة ، فقررت فعل شيء أخدم من خلاله نفسي وعيالي ووطني فحصل الذي تعرف وكانت النتائج كما عرفت أن قدمت إلى هذا المجتمع خمسة كوادر وأوصيتهم بالوصايا اللازمة هذا هو سر سفري يا بني .
أود يا عم أن أسألك عن أمر آخر يتعلق بثقافتك وكيفية اكتسابها ؟ فالمستمع لحديثك لا يصدق أن رجلاً يعمل في الحقل طول وقته ويملك ما تملك من الثقافة !.
في الحقيقة يا بني لجأت إلى العمل الدائم في الحقل بعد المرور بمحنة صعبة وشاقة ، قبل وفاة والدي كنا جميعاً نعمل في مركز دراسات وبحوث إلاّ أن الحرب الغادرة قضت على أملاكنا وهجّرتنا من أرزاقنا ، فكان عملنا المتأخر حلاً وسطاً يغنينا عن حاجة الناس وخاصة بعد أن تراكمت علينا الديون التي هي ذلّ في النهار وهمّ في الليل ، ولما تمكنت من السفر إلى بلد يمكنني أن أعمل فيه بمهنتي فعلت ذلك ، وها أنا سأوصيك مما علمني الدهر لعل ذلك ينفعك في مسيرة حياتك :
تعود يا بني أن يكون عملك منسجماً مع هدفك وأن لا يكون هدفك أنانياً يدور في محور شخصك ، إنني أجل فيك يا بني حبك للمعرفة والإطلاع والعمل وهذا يحتاج إلى استمرار في مسيرة العلم الذي جعله الله نعمة ثانية بعد الوجود . أنا قد شارفت على نهاية ما تبقى لي من العمر ولا أدري قد يكون غداً أو بعده السفر ، أما أنت وأقرانك لكم العمل ولكم هذه الدنيا ساحة واسعة فاعملوا والله لا يضيع أجر العاملين .
أنتم الشباب أمل المستقبل والعمود الفقري للمجتمع ، قولوا كلمة الحق ولو بوجه الأقوياء لا تأخذكم في الله لومة لائم .
إحذروا الذين يستخدمون الآخرين مراكب ليصلوا إلى ما يبتغون ، وإذا تمكنتم يوماً من الوصول إلى موقع فليكن أكبر همكم إصلاح ذات البين وخدمة المحتاجين وكما قيل : كفارة العمل مع السلطان قضاء حوائج الإخوان .
أنظر إلى الإمام علي بن أبي طالب (ع) وهو في موقع السلطة كيف كان يتعاطى معها : تواضع وقضاء بالحق وخدمة الناس بالمساواة والعدل ، أنظر إليه وليكن هو الأسوة الحسنة لك ولإخوانك فقد رفض أن يبيت شبعاناً وحوله من لا عهد له بالشبع ولا طمع له برغيف الخبز، رفض أن يقال له يا أمير من غير أن يشارك الناس في جشوبة العيش ومكاره الدهر فكان صورة واحدة تحكي القائد العظيم والمواطن الصغير في آن واحد حتى قالوا عنه كان فينا كأحدنا .
بسلوك القائد يا بني يصلح المجتمع لأنه أشبه بجهاز الإرسال الذي يبث الذبذبات إلى كل أجهزة المجتمع .
ثم اعلم يا بني أن الإنسان عندما يصبح في موقع المسؤولية تختلف الأمور وتأخذ الناس معنىً حتى لحركاته وسكناته لو حرّك يده أو جلس أو مقام من مقامه لفسروا ذلك بألف تفسير ، فكيف لو تكلّم وهنا إحذر اللسان من زلة قد تجلب الويلات فقد جاء في الحديث القدسي :" يعذب اللسان عذاباً لا يعذب به شيئاً من الجوارح ! فيقول : أي ربي عذبتني عذاباً لم تعذب به شيئاً ؟ فيقول الله تعالى : خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدم الحرام وانتهب بها المال الحرام وانتهك بها العرض الحرام ، وعزتي لأعذبنك عذاباً لا أعذب به شيئاً من جوارحك ". هذا النص يا بني غني بالعبر لنتعظ ونحذر زلة اللسان .
تابع العم جعفر وصاياه لي وأنا أستمع إليه حتى الكلمة الأخيرة ووعدته أن أعمل بهذه الوصايا بإذن الله تعالى .
أيها الشباب إذا أردنا أن ندخل إلى مدرسة اسمها الدهر فعلينا بالشيوخ الذين خاضوا التجارب واستخلصوا منها الحكم ، ولا ننسى المثل القائل :"من ليس له كبير ليس له تدبير ".
لكم الإحترام أيها الآباء أنتم صمام الأمان الذي يحمينا .
لن يهلك مجتمع شبابه يستمعون لإرشادات شيوخه وشيوخه يؤدون الأمانة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حسين عليان
1999 م
الطبعة الأولى سنة 2000 م